بقلم د.محمود محي الدين
وجد من قصدوا دافوس لاجتماعات المنتدى الاقتصادي العالمي الذي عُقد منذ أيام، اختلافات كثيرة عما عهدوه من قبل. وأبسط هذه الاختلافات ما كان في موعد انعقاده، ليصبح هذه المرة في مايو (أيار) من ربيع العام، بدلاً من يناير (كانون الثاني) في ذروة شتائه كما جرت العادة في منتجع التزلج الجبلي السويسري، الذي ظل محتضناً اجتماعات المنتدى لعقود متوالية كأحد أهم فعالياته منذ تأسيسه منذ أكثر من نصف قرن.
وكان من التعليقات اللاذعة المتهكمة ما استمعت إليه من بعض شباب المشاركين في الاجتماعات، أن استمرار التدهور في أوضاع المناخ سيجعل ما نراه في مايو هو الطقس المعتاد لدافوس في يناير بلا جليد، أو تساقط للثلوج حتى في فصل الشتاء بفعل سخونة الأرض. فوفقاً للتقارير العلمية التي كثرت الإشارة إليها لسنا على المسار المطلوب للمحافظة على درجة حرارة الأرض لدرجة ونصف مئوية فوق متوسطاتها قبل الثورة الصناعية، كحد قرره العلماء لاستمرار الحياة وأسباب المعيشة، وإن كان سيصاحب هذا المستوى التي يطمح العالم إليها بمخاطر أشد مما نعايشه الآن ونحن لم نتجاوز بعد 1.1 درجة مئوية، مثل شدة الفيضانات وانتشار حالات الجفاف وحرائق الغابات والتصحر وتآكل الشواطئ.
ومن الاختلافات ما عكسته أغلفة المطبوعات المنتشرة في أروقة المنتدى ومداخل فنادقه وقد غلبت عليها عناوين الأزمات والتوترات الجيوسياسية: فبعنوان «العالم بعد الحرب» ظهرت مجلة الشؤون الدولية (فورين أفيرز) وعلى غلافها علم أوكرانيا كاسياً مجسم الكرة الأرضية إلا قليلاً منها، تعبيراً عن مدى الحرب وتأثيراتها؛ وأرادت مجلة السياسة الخارجية (فورين بوليسي) أن تتميز فجاءت عناوين غلافها بتركيز على «منافسة القرن» وتقصد بها المنافسة بين الولايات المتحدة والصين، وكيف يريان بعضهما بعضاً قبيل الزيارة الآسيوية للرئيس الأميركي بايدن. ولكن أكثر الأغلفة إثارة للهلع العام ما كان من غلاف مجلة «الإكونوميست» البريطانية التي جعلت صورة غلافها التي بدلت حبات سنابل القمح بجماجم بشرية صغيرة تحت عنوان «كارثة الغذاء القادمة».
وجاءت في العموم الإصدارات الأفريقية والآسيوية أكثر اهتماماً ببراغماتية عن النواحي العملية للخروج من الأزمات.
وكانت أزمات الطاقة والغذاء والاقتصاد – خاصة فيما يتعلق بالتضخم ومخاطر الديون الدولية ومخاوف الركود مسيطرة على الجلسات، ولكن غلب على النقاش تداعيات الأزمات الجيوسياسية والحرب الأوكرانية.
وفي تقديري، أنه إذا عقدت المقارنات بين أداء القيادات الدولية ومجموعات عملها المنخرطة في مجموعات الدول السبع الصناعية، وكذلك مجموعة العشرين إبان الأزمة المالية العالمية في 2008 وما صحبها ثم تلاها من أزمات في أسعار الغذاء والطاقة ستجد أداءً أفضل في مواجهة الأزمة وتعاوناً فعالاً.
ورجوعاً إلى أزمة الغذاء الراهنة بين ارتفاع أسعاره وتكاليف نقله وتأمين شحناته، وشح كمياته المفترض تدفقها إلى مناطق تعاني من الجفاف؛ فإن التهوين من نسبة الاقتصادين الروسي والأوكراني في الاقتصاد العالمي وأنهما مجتمعين لا يشكلان أكثر من 4 في المائة من ناتجه، لا يتناسب معه ما كان اشتعالاً في الأسعار بعد الحرب. ولهذا تفسير بأن رغم الصغر النسبي للبلدين، فإن مساهماتهما في قطاعي الطاقة والغذاء كبيرة. فأوكرانيا تصدر وحدها 17 مليون طن من القمح بما يعادل 9 في المائة من إجمالي الصادرات العالمية، وتتركز أسواقها في بلدان محددة، ولكن مع ذلك كيف يسبب ارتباك تصدير نسبة تقل عن 10 في المائة من سلعة من إجمالي سوقها إلى هذه الأزمة الدولية الطاحنة؟ هذا يرجع إلى طبيعة الاقتصاد السياسي السائد قبل الأزمة الأوكرانية في عالم يشهد حالة أقرب هي للمعترك الدولي من التعاون الدولي.
قيود على التجارة الدولية فرضها ترمب تشديداً على من سبقه، واستمرت بعده على منتجات الصين، وشل لحركة منظمة التجارة الدولية، وإجراءات حمائية شتى يفرضها أطراف التجارة على بعضهم بعضاً دون اكتراث لتعهدات دولية من باب الضرورات المبيحة للمحظورات حتى استشرى الحظر على حدود من تشدقوا بمبادئ حريات التجارة لما أتت الحريات بما لا يشتهون، وإن كانت بسلع ذات جودة وأرخص سعراً. ويذكرك ذلك بمقولة الكاتب الإنجليزي الآيرلندي أوسكار وايلد عن أن المبادئ لا يجب أن تغيرها الظروف، ولكنه منسوب له أيضاً ساخراً بأن لديه مجموعة من المبادئ كلما ضاق بها أتى بغيرها. فأي أوسكار وايلد تصدق: الحكيم أم الساخر؟
وحتى لا تحتار كثيراً، فالمعاملات الاقتصادية المستندة إلى قواعد يحدد قواعدها تلك الطرف الأقوى دائماً، مع إخراج مقنع بعدالتها وترك بعض المكاسب بتفاوت للآخرين من أطراف اللعبة حتى تستمر المباراة. أما إذا احترف الضعفاء قواعد اللعبة وشرعوا في تحقيق مكاسب فقد يتسامح صاحب قواعد اللعبة في بداية الأمر مظهراً إيمانه بقواعدها، متشدقاً بعدالته، فإذا ما استمر في الخسارة سرعان ما حاول تبديل القواعد سعياً لاستعادة المكاسب القديمة، ولكن هيهات. فهذا ليس كلعب الأطفال لكرة القدم في الأزقة والحواري، فيأتي صاحب الكرة ليختار لاعبي الفريقين ويضم نفسه إلى الفريق الأفضل ويختار جانب الأرض الأنسب، وربما يكون هو الحكم في غياب الحكم، فإذا انتصر استمر مهللاً، وإذا خسر ضاق باللعب وأخذ كرته وانصرف للعب بها مع آخرين.
وما حدث من أزمة غذاء أشد شراً؛ فمع اضطراب خطوط الإمداد الأوكرانية تناست الحكومات قواعد حرية التجارة فاتخذت 26 دولة إجراءات بحظر التصدير وفقاً لتحليل الاقتصادي المرموق كوشوك باسو، الذي عمل مستشاراً لحكومة الهند وكبيراً للاقتصاديين بالبنك الدولي؛ مسبباً ذلك ارتفاعات متوالية للأسعار بسبب داء التخزين وحكر البضاعة عن البيع مسببة سلوكاً مماثلاً لدى التجار والأفراد بتخزين البضاعة طمعاً في سعر أعلى، وخوفاً بلا مبرر فعليّ من نفادها؛ فنفادها نتيجة لأفعالهم.
ويذهب باسو في مقال أخير إلى أن تجربة الهند داخلياً بتنظيم أسواقها وتشريعاتها بما غير سلوكيات ضارة مثل التخزين والاحتكار، قد يستفاد منها عالمياً بإيجاد نظام ملزم للتعاون الدولي مساند بإجراءات قانونية وآليات اقتصادية لتوفير الغذاء ومنع المجاعات. وضرب مثلاً آخر بتعديل دستور الولايات المتحدة ليسمح بوجود مصدات مضادة للأزمات الغذائية في الولايات الأميركية وعبرها. ولعلك تجد في هذه الاقتراحات مثالية استفادت من أعمال الاقتصادي الهندي أمارتيا سن، الحائز جائزة نوبل، في دراساته عن المجاعة البنغالية التي حدثت في الأربعينات من القرن الماضي. وللأسف، لا أرى إرادة سياسية متوفرة في المجتمع الدولي تنتقل بهذه الأفكار إلى حيز التنفيذ، فالمتاح حالياً بما وصلنا إليه من وهن في التعاون السياسي الدولي هي إجراءات الحد الأدنى المانعة مزيداً من الانهيار الذي قد يطال من يظنون أنهم في منعة من شرور الأزمات.
ولكن، هناك ما يدعم هذا التوجه عملياً في إطار اتفاق باريس لعام 2015 وتعهدات موقّعيها الملزمة للتصدي لتغيرات المناخ، بمساندة دولية تدفع بطموحاتها همة المطالبين بحقوقهم في مناخ آمن وبيئة نظيفة من الأجيال الشابة ومنظمات المجتمع المدني وسائر الأطراف غير الحكومية بما في ذلك القطاع الخاص والشركات والمؤسسات المالية.
ومن الموضوعات التي تحظى بمساندة من رئاسة قمة شرم الشيخ القادمة في نوفمبر (تشرين الثاني) قضايا التغذية والغذاء. فهناك 800 مليون إنسان محروم من الغذاء بما يتناقض مع الهدف الثاني من أهداف التنمية المستدامة. وهناك 76 في المائة من العالم يعتمدون في غذائهم على محاصيل زراعية تهددها تغيرات المناخ، فضلاً عن تغيرات في نوعياتها بسبب زيادة الانبعاثات الكربونية. يدعونا هذا إلى تبني مشروعات مشتركة في مجالات الزراعة والتغذية والطاقة وإدارة المياه، بما يحول الأفكار القيمة إلى استثمارات مجدية وهو ما سيتم تناوله تفصيلاً في جلسات متخصصة تسبق قمة شرم الشيخ، التي تتبنى شعاراً عملياً وهو «معاً نحو التنفيذ»، فبعد تكرار على مدار سنوات طوال لتعهدات ووعود آن وقت تفعيلها على الأرض بما يحميها وينفع عموم الناس.
نقلاً عن الشرق الأوسط