شبكات الحماية الاجتماعية المتطورة والاستثمار في الإنسان!!!
بقلم / د.عاطف الشبراوي
أستاذ الابتكار وريادة الأعمال بالجامعة اليابانية المصرية التكنولوجيا
لا جدال ان ثورة 30 يونيو كانت خلف ثورة أعمق تأثيراً في منظومة الحماية الاجتماعية في مصر، فبعد أن ظل ملف منظومة الحماية الاجتماعية يعانى الإهمال على مدار سنوات كثيرة، أطلقت روح 20 يونيو العنان لتحديث وتطوير مكونات منظومة الحماية الاجتماعية والتي تمثل تدابير تتخذها الدول لتوفير حماية اقتصادية وصحية وتعليمية للأسر والفئات الأولى بالحماية، وإتاحة فرص التدريب والتشغيل للخروج من دائرة الفقر وتحسين الإنتاجية، والاستثمار في التعليم، وحماية المسنين والصحة، وصولاً للعدالة الاجتماعية.
وليس مصادفة ان تقع أنظمة الحماية الاجتماعية في صميم روح ثورة 30 يونيو التي طالبت بتعزيز رأس المال البشري وتمكين الناس من مواجهة الأزمات والصدمات بمختلف أنواعها والاهتمام الفقراء وقراهم ومرافقهم، وقد حاز ملف الحماية والرعاية الاجتماعية للأسر الأولى بالرعاية على جانب كبير من اهتمام الرئيس عبد الفتاح السيسي، حيث وضعه ضمن أولوياته، مكلفاً الحكومة بإعادة النظر في فاعلية جهود التنمية ومظلة الحماية والرعاية الاجتماعية التقليدية التي تآكلات عبر السنين وتحولات الى مجرد قناة لتحويل الأموال وتوزيع الكراتين على عدد من الاسر الفقرة وإخلاء مسئولية الدولة من حمايتهم وضمهم تحت مظلة منظومة مستديمة للحماية والرعاية.
وتم العمل على ملف الحماية والرعاية الاجتماعية في ثلاثة مستويات: الاول في تدخلات لتعزيز وحماية العمالة والتشغيل الفعال، والثاني في تطوير التأمينات الاجتماعية المرتبطة بالعمل والشيخوخة، مثل التأمين الصحي أو المعاشات, والثالث في تطوير الخدمات والمساعدة الاجتماعية النقدية أو العينية.
فعلى مستوى الخدمات والمساعدات الاجتماعية تم اطلاق مبادرات تستهدف الفئات الأكثر احتياجًا بمجموعة من المبادرات الرئاسية, اهتمت بتطوير بيئة وظروف حياة الفقراء كبرنامج “سكن كريم” الذي أطلق عام 2017، لتوفير الخدمات الأساسية للأسر الفقيرة والمحرومة من مياه شرب نقية وصرف صحى وترميم أسقف لمنازل، ثم مبادرة “حياة كريمة” التي تستهدف التوسع في تحسين أوضاع القرى الأكثر فقرا فى مصر وتطويرها وتقليل الفجوة بينها وبين المدن المتطورة، واستحداث بنية تحتية من المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر، وتفعيل دور التعاونيات الإنتاجية، وخدمات طبية من بناء مستشفيات ووحدات صحية وتجهيزها بالمعدات الازمة، وتستهدف المبادرة تحسين حياة 50 مليون مصري.في 4500 قرية باستثمارات تصل إلى 700 مليار جنيه.
وفي نفس السياق تم إطلاق برنامج “تكافل وكرامة” عام 2015، كأبرز برامج المساعدات النقدية المشروطة لمساعدة الأسر الفقيرة والأكثر احتياجًا، بناء على استهداف موضوعي-علمي للأسر بتوظيف مناهج الفقر متعدد الابعاد, الذي يهتم بأوضاع الاسر فيما وراء الوضع الاقتصادي, عبر مؤشرات اجتماعية تضمن كفالة حقوق أطفالها الصحية والتعليمية، هذا بالإضافة إلى مد شبكة الحماية لتشمل الفئات التي ليس لديها القدرة على العمل والإنتاج مثل كبار السن, أو من هم لديهم عجز كلى أو إعاقة، واستفاد من البرنامج ما يقرب من 5 ملايين أسرة, وقامت الحكومة بالتنسيق بين عدد من الوزارات والهيئات بتأسيس سجل اجتماعي للأسر يوضح مستويات الدخل والفقر متعدد الابعاد.
بالتالي تستطيع الحكومة تحسين استهداف المستفيدين من أنواع الدعم المختلف مثل البطاقات التموينية والذي يصل عددهم 72 مليون مواطن، وقد اثبت هذا السجل الاجتماعي فائدة ضخمة أثناء وباء كورونا حيث مَكنْ الدولة من زيادة عدد 100 الف اسرة جديدة في خلال أيام كما وتوسعت الدولة في الخدمات الاجتماعية المتخصصة وتم استحداث، برنامج “أطفال بلا مأوى” عام 2017، لحمايـة الأطفال بلا مأوى وتقديم خدمات الرعاية والتأهيل، ونتذكر قضية أطفال الشوارع والتي كانت وصمه في جبين الدولة المصرية قضت عليها هذه المبادر، وتم إطلاق عدد من المبادرات للعمل والإنتاج للفئات الفقيرة مثل مبادرة «بر أمان» لدعم طبقة الصيادين في البحيرات، وإحلال المراكب القديمة بمراكب جديدة لصغار الصيادين، ومبادرة “تِتلف فى حرير”، لدعم منتجات النول المصري وتستهدف مرحلتها الأولى توزيع 500 نول على الاسر التي لا تمتلك نول للنسج عليه, ومنحة العمالة غير المنتظمة وإنشاء صندوق إعانة الطوارئ لـ العمالة غير المنتظمة غير المستفيدين من برامج الحماية الاجتماعيـة.
وكذلك على مستوى تحسين ظروف سوق العمل ورفع الأجور, تم زيادة مرتبات جميع العاملين بالجهاز الإداري للدولة بإجمالي نحو 37 مليار جنيه، ورفع الحد الأدنى للأجور إلى 2400 جنيه ثم تم رفعه مرة ثانية ليصبح 3000 جنية, وإقرار علاوات للموظفين المخاطبين بقانون الخدمة المدنية وغير المخاطبين, وتم ترقية الموظفين المستوفين اشتراطات الترقية فى 30/6/2021، بما يحقق تحسنًا في أجورهم, وتم إصدار قانون التأمينات الاجتماعية والمعاشات الجديد عام 2029 والذي عُدل عام 2021 وكي يتوافق مع المادة 17 من الدستور المصري ومع المعايير الدولية وعلى الأخص المعيار رقم 102 لسنة 1952 الصادر من منظمة العمل الدولية, ليضمن القانون المساواة بين جميع فئات المجتمع في تطبيق قواعد تأمينية واحدة.
كما شهد القطاع الصحي طفرة في الإنجازات بعد الإهمال الشديد الذي تعرض له لعقود، ومعاناة الناس مع العلاج على نفقة الدولة وقوائم انتظار العمليات، وساهمت مبادرة “١٠٠ مليون صحة” التي أطلقت عام 2018 للقضاء على فيروس سي, وكذلك شهد قطاع التعليم عمليات التحول الالكتروني وتحديث المناهج والمدارس والعملية التعليمية, وكلها مبادرات تستثمر في الانسان, وتعمل على تعزيز رأس المال البشري وتمكين الناس من مواجهة الأزمات والصدمات, والذي لم يعد يتم فقط بالمساعدات ولا المنح، ولكن الأهم بتشجيع وتسهيل العمل والإنتاج، بالتالي تم اطلاق مبادرات لتمكين الشباب والقضاء على البطالة وتحسين فرص دخول سوق العمل.
سواء بين الاسر المهمشة، كبرنامج فرصة الذي اطلقت وزارة التضامن الاجتماعي لإخراج 50 الف اسرة من الفقر في المرحلة الأولى له, وبجانب الحراك الذي احدثته المشروعات القومية العملاقة مثل العاصمة الإدارية الجديدة في خلق فرص عمل ورواج اقتصادي للشركات الصغيرة والمتوسطة, شجعت الدولة القطاع الخاص من خلال إنشاء المجمعات الصناعية وأنشأت 17 مجمعا صناعيا على مستوى الجمهورية، لدعم شباب المستثمرين في مجال الصناعات المتوسطة والصغيرة وإتاحة برامج تمويلية ميسرة لتوفير الآلات والمعدات اللازمة للمستثمرين، وقد تم خلق 5.4 مليون فرصة عمل علي مدار السنوات الثمان الماضية، ومصر تحتاج أكثر من 500 مليار جنيه سنويا لتوفير مليون فرصة عمل جديدة, حيث ذكرت احدى مدونات البنك الدولي ان تكلفة خلق الفرصة الواحدة تتراوح بين 25 – 30 ألف دولار, وهي تكلفة باهظة على ميزانية الدولة
وفي الوقت الذي استطاعت فيه المشروعات القومية الكبرى خلق جزء كبير من هذه الوظائف, وجب على القطاع الخاص الآن الأخذ بالمبادرة وطوير قدراته ونماذج عمله ورؤيته للمسئولية الاجتماعية ليصبح المصدر الرئيسي لتوفير الوظائف اللائقة والنمو الاقتصادي في الدولة.
لا احد يستطيع ان يتغافل عما تم على مستوى الكيفي والكمي من مبادرات غير مسبوقة, لتطوير منظومة الحماية الاجتماعية في الجمهورية الجديدة التي تتضح معالمها يوماً بعد يوم, فما تم يعكس تركيز الدولة على أجندة الاستثمار في الإنسان المصري، كنواة للتقدم، وتوجيهاته التي ترجمتها حكومية في صورة استثمارات ضخمة في التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية والبيئة العمرانية التي يعيش الانسان المصري سواء في المدينة او القرية.
هذه القفزات التاريخية يجب ان تفتح الباب لتطوير وجذب مساهمات كل من القطاع الخاص والأهلي لتحمل الأعباء مع الدولة والنهوض بما يطلق عليه الاقتصادي الاجتماعي, وفقًا لتقرير الأمين العام للأمم المتحدة يساهم الاقتصاد الاجتماعي بحوالي 7٪ في الناتج المحلي الإجمالي العالمي , كما أشار تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي ارتفاع الأصول الخاضعة للإدارة المتوقعة في سوق الاستثمار المؤثر بحلول عام 2023 لتصل الى 1.845 تريليون دولار, ما يهمنا ان الجانب “الاجتماعي” في الاقتصاد يعني أن الربحية تكون اجتماعية أو جماعية بدلاً من فردية.
فكل الأفراد المشاركين في هذه المشروعات بالعمل والإنتاج يتمتعون بالعائد والربحية، وإذا كانت مؤسسات التعاونيات والجمعيات الأهلية غير الهادفة للربح تمثل النواة الأولى للاقتصاد الاجتماعي، فيجب إطلاق مبادرات رئاسية لتطويرها وتحديثها كي تلعب دورها التنموي المأمول وفق لأصولها ومواردها , ومبادرات أخرى لتشجيع الشركات الناشئة الاجتماعية والتشاركية، كمثال لشركة, “اوبر” لنقل الركاب بالإجره وهي مثال لشركة تساهم في توظيف الشباب وزيادة الدخل الشهري للملايين من الموظفين الذي يستغلون سيارتهم لبعض الوقت, ومصر انطلق منها اول شركة ناشئة سجلت في بورصة ناستاك الامريكية, وتخطت قيمتها السوقية المليار دولار وهي شركة “سويفل” للنقل الجماعي, وهذا القطاع مع قطاعات الخدمات الاجتماعية في التعليم والصحة وتمكين وتدريب الشباب يشهدوا أكبر نمو بين قطاعات الشركات الناشئة في العالم.
فلسفة التحول من الحماية إلى الإنتاج تركز على تنمية وتطوير المجتمع بقدرات وطاقات وموارد أبناؤه من خلال تأسيس وإدارة شبكة حماية مرنة تتعامل مع مختلف الصدمات من مالية واقتصادية وصحية واجتماعية, وكلنا ثقة في أن هذه هي اجندة العمل في الفترة القادمة, والتي يجب تشجيع دخول القطاعات الاهلية والخاصة الى الخدمات الاجتماعية كي تستثمر فيها لتسمح للدولة باستخدام الموارد بأكبر قدر من الكفاءة والإنصاف وتضمن الاستدامة المالية ونمو هذه القطاعات واشير أخيراً الى تجربة مبتكرة, في باكستان, حيث قامت الحكومة بإطلاق صندوق تخفيف حدة الفقر، في صورة شركة مستقلة غير هادفة للربح تساهم فيها أربعون منظمة غير حكومية شريكة بتنفيذ هذه المبادرة, ويتم التعاون مع برنامج “بنازير” للتحويلات النقدية ودعم الدخل (BISP) – فكرة تأسيس الشبكة كشركة فكرة مبتكرة تضمن حشد وإدارة الموارد المالية المستدامة.